آخر الأخبار

جاري التحميل ...

نساء الحارة يتبركون ببول منير




نساء الحارة يتبركون ببول منير
 بقلم:ابراهيم علاء الدين
تاريخ النشر : 2008-07-12
في مدينة البيرة الفلسطينية يوجد جبل يقال له الجبل الطويل وعلى اطراف الجبل كان هناك ضريح لولي اسمه (سيدي شيبان) ، وكانت بعض الاشجار البرية المنتشرة في الجبل تشكل هدفا لاطفال الحارة الذين تتراوح اعمارهم ما بين 12 و 15 سنة، وفي احدى الجولات في المنطقة القريبة من مسجد الضريح شاهدنا رجلا وامراته ومعهما طفلان باعمارنا تقريبا يسرقون الضريح، فاخذوا الشموع ، وبقايا الطعام الذي يتركه الزوار، وقطع قماش خضراء وكل ما يقدمه زوار الضريح كنذور ل(سيدي شيبان)
 ودفعني الفضول المتغلغل في اعماقي منذ سن مبكرة لتتبع الرجل واسرته ومعي اولاد الحارة الذين كنت اصحبهم او يصحبوني ، فاذ به يقطن في مكان غير بعيد ، حيث يعمل حارسا على بعض كروم الزيتون المحيطة.
وعرفنا لاحقا ان الناس البسطاء الذين يوفون بنذورهم ويقدمونها ل (سيدي شيبان) انما هم يقدمون هذه النذور للحارس وعائلته، الذي يقوم ببيعها لتاجر اسمه سلامة القدسي، دكانته قرب المنارة التي تتوسط مدينتي رام الله والبيرة.
قبل امتحانات نهاية السنة بقليل كانت جدتي والتي كنت احظى منها برعاية خاصة ولها الفضل في تربيتي وتوجيهي وزرع كل ما هو قيم وعظيم في نفسي ، تحثني على ان (انذر) لسيدي شيبان حتى انجح بالمدرسة، (أي اعده بانني اذا نجحت ساقدم لضريحه شيئا كالشموع او غيرها) وكنت اعاندها وابلغتها بان النذور ياخذها الحارس لكنها لم تصدقني، وكانت تقول "حرام تقول هيك، فبعد ما يروح الناس من عند سيدي شيبان بيصحى بيتوضأ وبيغير ثوبه وبيصلي ، وبعدين، يشعل الشموع ويتعشى ثم يجلس يقرأ القران ويدعوا لمن قدم له النذور حتى الفجر ثم يرجع لينام"
وكنت اوجه لها اسئلة كثيرة منها مثلا (سيدي شيبان ما عنده حمام ليستحم ويبول ويتبرز) فتقول ان الاولياء لا يبولون ولا يتبرزون ولا يستحمون لانهم اطهار تغسلهم الملائكة.
ولما سالتها (ليش ما عنده زوجة؟) قالت "الاولياء يتزوجون من حور العين ونحن لا نراهم الا يوم القيامة" .
وسالتها مرة لماذا لا يوجد اولاد عند سيدي شيبان؟ فقالت "عنده اولاد بس اولاد الاولياء يعيشون بالجنة".
وقلت لها طيب وين بيحلق شعره سيدي شيبان؟؟ قالت "بتيجي" الملائكة وبتقص شعره وبتاخد الشعر معها الى الجنة لانه حرام شعر الولي يسقط على الارض".
وسالتها (هل سيدي شيبان يسمعنا لما بنحكي معاه؟) قالت "طبعا طبعا ما بتشوف الناس وهي تستدعي له عند ضريحه".
وفي فترة لاحقة سجن والدي بتهمة انتمائه لاحد الاحزاب المحظورة ، (ليس حزب الخرافة بالتاكيد) ولما رايت جدتي تبكي بحرقة سالتها لماذا لا تذهبي لسيدي شيبان وتطلبي منه الافراج عن ابي؟. لم تجب على سؤالي لكني رايته بعينيها اليائستين كانها تقول "حل عني انتا وسيدي شيبان تبعك".
قبل الامتحانات النهائية للسنة الدراسية خرجت وصديقي منير للدراسة في حقل الزيتون المجاور لمنزلنا، وكان عقلي مشغولا بكلام جدتي عن النذر لسيدي شيبان ، ودخل نفسي خوف وقلق من رسوبي بالصف اذا لم انذر لسيدي شيبان، وعبرت عن قلقي لمنير فقال انذر..
فسالته هل انت نذرت؟
قال : لا
قلت : "طيب لشو ندرس ونغلب حالنا تعال ننذر وخلاص بننجح بدون دراسة".
قال : والله فكره .. "خلص نذر علي اذا نجحت لاقدم لسيدي شيبان 6 شمعات"
ورددت ما قاله منير "نذر علي اذا نجحت لاقدم لسيدي شيبان 6 شمعات".
وضعنا الكتابين تحت احدى الشجرات وخرجنا نبحث عن اولاد الحارة لنلعب معهم لاننا خلاص ضمنا النجاح. "بست شمعات بتنجح بالمدرسة و ب 12 شمعة بتنجح بالثانوية، وب 100 شمعة بتاخد الدكتوراه".!!!!!!!!!
وفي اخر النهار عند عودتي للبيت بعد يوم مليء بشقاوة الاطفال ذهبت على الفور لجدتي لابلغها انني انذرت لسيدي شيبان، انشرحت اسارير وجهها لكن والدتي لم يعجبها كلامي واستوضحت مني حقيقة الامر فشرحته لها ، فأنبتني وقالت "أي سيدي شيبان وزفت هاد يلي بدو ينجحك اذا ما بتدرس ما بتنجح
".
لم يغمض لي جفن طيلة تلك الليلة والحيرة هلكتني بين ما قالته امي وبين ما تقوله جدتي، واسمر القلق في اليوم التالي، واثناء الحصص بالصف لم اكن كعادتي حيويا مشاغبا، بل كنت متعبا نعسانا ، ولا استطيع التركيز، فسالني الاستاذ اسماعيل بطمة عما اذا كنت مريضا فأومأت له براسي بالايجاب، وبعد انتهاء الحصة طلب مني مرافقته للادارة حتى يعطيني اذن بالذهاب الى الطبيب، فشعرت بارتباك شديد، ولكني تملكت الجرأة وقلت له "يا استاذ انا كذبت عليك انا لست مريضا ولكني تعبان، وسالني عن سبب تعبي فقصصت عليه ما انا فيه، فقال "لا ترد على جدتك واسمع كلام والدتك".
شعرت بارتياح كبير، وعادت لي بعض الحيوية ، وفي اثناء الطريق من المدرسة الى البيت وكنت وصديقي منير وزميلي مصطفى البرغوثي الذي كنت اجلس انا وهو بنفس المقعد بالصف والذي اصبح الان شخصية سياسية مرموقة بفلسطين، ابلغت صديقاي بما قالته امي وبما قاله الاستاذ، وقلت لهم ان امي تقول عن سيدي شيبان زفت، وان الاستاذ ايدها بذلك.
فقال منير "انا امي عمرها ما زارته وبتقول علي الذين يزوروه انهم قليلين عقل ودين" اما مصطفى فقال "انا سمعت ان سيدي شيبان اصله تركي مش عربي".
وابلغت امي بما قاله الاستاذ اسماعيل ولم ابلغ جدتي، خشية ان تعزز وجهة نظرها بعبارات التحذير والترهيب ويعود ليتسلل الخوف الى نفسي وترجع الحيرة لتعذبني مرة اخرى.
وابلغت منير انني تراجعت عن النذر، وانني سادرس وسانجح ، عارضني وحذرني ولما لم اوافقه الراي قال " شو رايك نعمل الاثنين نقدم النذر وبنفس الوقت ندرس".
قلت: لا لن اقدم نذرا لسيدي شيبان"
انهمكت بالدراسة في الاسبوعين التاليين وقدمت الامتحانات، وكانت النتيجة النجاح بامتياز ولن اقول ما كان ترتيبي خشية ان يتهمني البعض بانني امدح نفسي.
فيما منير صحيح انه نجح ولكن جاء ترتيبه في المؤخره.
وفرحت والدتي وقالت "شايف اللي بيدرس كيف بينجح وبيجيب علامات كويسه"، فيما قالت "جدتي هذه بركات سيدي شيبان".
الطقس في رام الله بديع حتى في عز الصيف، فمهما ارتفعت درجة الحرارة لا تصل الى اوائل الثلاثينات، ومهما كانت اشعة الشمس قوية فبمجرد الجلوس تحت الظل (أي ظل منزل سوق دكانة شجرة مظلة) ياتي نسيم الهواء عليلا.
في منصف شهر يوليو تقريبا قررت جدتي زيارة سيدي شيبان للوفاء بالنذور، وكان الاستعداد للزيارة له طقوس منها شراء النذور، والاستحمام ، وتحضير الخضار(البندورة والبقدونس والخس والخيار، لزوم السلطة ، واللحوم التي سيتم شوائها تحت اشجار البلوط).
وكانت بالنسبة لنا نحن الاطفال مثل هذه الزيارة عبارة عن رحلة مع عائلاتنا لنلهوا ونمرح.
وفي اليوم المقرر قالت لي جدتي انها اشترت النذر الخاص بي وهو 6 شمعات ولم اجادلها بالامر ورددت ورائها جملة لاقولها عند وضع الشمع في المكان المخصص في غرفة الضريح اتذكر جزءا منها يقول "يا واهب الامل يا صاحب الفرج يا منجي يا معين يا سيد الاسياد يا مفرج الكرب اقدم لك نذري لترعاني وتعينني وتحفظني من الشر والضنك".
نساء الحارة ومعهم عمتي التي جاءت من بيتونيا لتقدم نذرها لسيدها شيبان عله "يطعمها ولد" منهمكات بعمل السلطة وتحضير عملية الشواء ، فيما نحن الاولاد الذين زاد عددهم عن 15 بعضنا يعبث في الكروم المجاورة، يبحثون في شجر الزيتون عن اغصان مميزة ليعملوا منها (ملطاش) او (مطاطة) او (مغيطه) وكلها مسميات لنفس الشيء وهو عبارة عن غصن زيتون على شكل رقم 7 وله مقبض يربط به مطاطاتان فيما الطرف الاخر يربط بما كنا نسميه لسان وكنا نستخدمه في صيد العصافير او في (الخناقات) مع اولاد حارات اخرى.
وجزء من الاولاد وكنت منهم رحنا نلعب لعبة (الاستغماية او الغماية) وهي لعبة مشهورة عند اطفال بلادنا حيث يغلق احد الاولاد عينية لمدة دقائق بما يسمح لللاعبين ان يختبئوا ثم بقوم بالبحث عنهم واول واحد يتم اكتشافه يقع عليه الدور في الاستغماء.
وكان افضل مكان من وجهة نظري ومنير ان نختبيء داخل غرفة الضريح، فاختبأ منير قرب راس سيدي شيبان واختبات قرب رجليه، وكنا نسمع ضجيج النساء بالخارج حيث حضرت مجموعات اخرى منهن من حارات اخرى وكل مجموعة اتخذت لها موقعا تحت اشجار البلوط.
فجأة شاهدت منير رغم الضوء الخافت يجلس على ركبتيه ويبول على راس الضريح، فاضطربت وقلت حرام حرام ماذا تفعل ؟؟ قال "شعرت كانني سابول على نفسي ففعلتها".
لم نواصل لعبتنا طويلا حيث انتتهت النساء من تحضير الغداء واكلنا وشعبنا وشكرنا الله على فضله ونعمه، ثم قالت جدتي "يلا يا بنات نصلي الظهر"، ودخل النساء مقام الضريح ورافقهم بعض ممن لا نعرفهم من مجموعات اخرى ووقفنا حوالي خمسة او ستة من الاولاد نصلي خلف النساء اللواتي امت بهم جدتي.
وبعد ان انتهت الصلاة تقدمت جدتي خطوتان باتجاه المقام ورفعت يدها الى منتصف وجهها واخذت تتلوا ادعية ثم انزلت يدها ووضعتها على الضريح قرب الراس وفاجأت الجميع الذين كانوا في حالة خشوع تام وهي تقول بصوت عال "لا اله الا الله لا اله الا الله سيدي شيبان عرقان سيدي شيبان عرقان، وتمسح وجهها وكررت العملية عدة مرات تضع يدها على القبر وتمسح وجهها وهي تهلل وتكبر لا اله الا الله سيدي شيبان عرقان" وتدافعت النسوة للحصول ولو على قطرة من عرق سيدهم شيبان وحدث هرج ومرج والكل يهلل ويكبر، نظرت الى منير الذي يقف بجانبي فضحك وضحكنا معا وخرجنا من غرفة الضريح وتركنا جدتي ونساء الحارة والاخريات يتبركن ببول السيد منير.
وشاعت الحكاية في بعض احياء المدينة، وبدات حقيقة سيدي شيبان تكشف فاذ به كان احد جباة الزكاة في زمن السلطنة العثمانية وكان يتميز بالقسوة والشدة في اجبار فلاحين المنطقة على دفع (حقوق السلطان) وكان مشهورا بكرباجه الذي لا يرحم فعندما مات دفن في تلك المنظقة لكن الناس البسطاء المساكين وخصوا النساء ظلوا يقدمون الزكاة للسلطان ولكن على شكل نذور بعد ان رفعوا هذا الجبار المستبد وقدسوه.
ابراهيم علاء الدين

عن الكاتب

محمد رجب

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة لـ

المختلف .. الرأي الحر ,, والتفكير الحر

2017